فتح مصر – صلحا أم عنوة

  من كتاب فتوح البلدان للبلاذري 

مضى عمرو بن العاص إِلَى مصر من تلقاء نفسه في ثلاثة آلاف وخمسمائة، فغضب عُمَر لذلك وكتب إليه يوبخه ويعنفه عَلَى افتتانه عَلَيْهِ برأيه وأمره بالرجوع إِلَى موضعه إن وافاه كتابه دون مصر

فورد الكتاب عَلَيْهِ وكان الَّذِي أتاه شريك بْن عبدة فأعطاه ألف دينار فأبى شريك قبولها فسأله أن يستر ذلك ولا يخبر به عُمَر

Unknown

فنزل العريش ثُمَّ أتى الفرماء وبها قوم مستعدون للقتال فحاربهم فهزمهم وحوى عسكرهم ومضى قدما و حاصر حصن بابليون (في مصر القديمة المعاصرة) – ثم جاءته تعزيزات قدرها عشرة آلاف بقيادة الزبير بْن العوام بْن خويلد

وكان الزبير يقاتل من وجه وعمرو بن العاصي من وجه، ثُمَّ أن الزبير أتى بسلم فصعد عَلَيْهِ حَتَّى أوفى عَلَى الحصن وهو مجرد سيفه فكبر وكبر المسلمون واتبعوه ففتح الحصن عنوة واستباح المسلمون ما فيه

ثم طلب المسلمون من عمرو تقسيم الغنائم – فقال عمرو: والله لتقسمنها كما قسم النبي خيبر. فكتب عَمْرو إِلَى عُمَر في ذلك فكتب إليه عُمَر أقرها

. وأفر عَمْرو أهله عَلَى أنهم ذمة موضع عليهم الجزية في رقابهم والخراج في أرضهم وكتب بذلك إِلَى عُمَر بْن الخطاب فأجازه. ثم اختط عمرو مكانا بجوار الحصن و جعله مدينة  و سماها الفسطاط

يقول عَبْد اللَّهِ بْن عَمْرو بْن العاص عن فتح والده لمصر

اشتبه عَلَى الناس أمر مصر، فقال قوم: فتحت عنوة، وقال آخرون: فتحت صلحا، والثلج في أمرها أن أَبِي قدمها فقاتله أهلها ففتحها قهرا وأدخلها المسلمين وكان الزبير أول من على حصنها، فقال صاحبها (المقوقس – و كان هو حاكم مصر بالنيابة عن هرقل ملك الدولة البيزنطية) لأبي:

أنه قَدْ بلغنا فعلكم بالشام ووضعكم الجزية عَلَى النصارى واليهود وإقراركم الأرض في أيدي أهلها يعمرونها ويؤدون خراجها فإن فعلتم بنا مثل ذلك كان أرد عليكم من قتلنا وسبينا وإجلائنا،

فاستشار أَبِي المسلمين فأشاروا عَلَيْهِ بأن يفعل ذلك إلا نفر منهم سألوا أن يقسم الأرض بينهم فوضع عَلَى كل حالم دينارين جزية إلا أن يكون فقيرا وألزم كل ذي أرض مع الدينارين ثلاثة أرادب حنطة وقسطي زيت وقسطي عسل وقسطي خل رزقا للمسلمين تجمع في دار الرزق وتقسم فيهم. وأُحصي المسلمون (يعني قام بعدهم)، فألزم جميع أهل مصر لكل رجل منهم جبة صوف وبرنسا أو عمامة وسراويل وخفين في كل عام أو عدل الجبة الصوف ثوبا قبطيا – يعني المصريين يعطوهم هذه الملابس بهذا القدر لكل رجل

وكتب عليهم بذلك كتابا وشرط لهم إذا وفوا بذلك أن لا تباع نساؤهم وأبناؤهم ولا يسبوا وأن تقر أموالهم وكنوزهم في أيديهم، فكتب بذلك إِلَى أمير الْمُؤْمِنِين عُمَر فأجازه وصارت الأرض أرض خراج إلا أنه لما وقع هَذَا الشرط والكتاب ظن بعض الناس أنها فتحت صلحا

ولما فرغ المقوقس من أمر نفسه ومن معه في مدينته صالح عن جميع أهل مصر عَلَى مثل صلح الفسطاط فرضوا به (وافقوا)، وقالوا هؤلاء الممتنعون قَدْ رضوا وقنعوا بهذا فنحن به أهل لأننا فرش لا منعة لنا

انتهى كلام عبد الله بن عمرو

فبلغ ذلك هرقل ملك الروم فتسخطه وبعث الجيوش، فأغلقوا باب الإسكندرية وآذنوا عمرا بالحرب فخرج إليه المقوقس، فقال: أسألك ثلاثا أن لا تبذل للروم مثل الَّذِي بذلت لي فإنهم قَدِ استغشوني وأن لا تنقض بالقبط فإن النقض لم يأت من قبلهم وإن مت فمر بدفني في كنيسة بالإسكندرية ذكرها

فقال عمرو: هذه أهونهن علي وكانت قرى من مصر قاتلت فسبى منهم والقرى بلهيت والخيس وسلطيس فوقع سباؤهم بالمدينة فردهم عُمَر بْن الخطاب وصيرهم وجماعة القبط أهل ذمة وكان لهم عهد لم ينقضوه وكتب عَمْرو بفتح الإسكندرية إِلَى عُمَر

و يقول زيد بن زبي حبيب – فإن اللَّه فتح علينا الإسكندرية عنوة قسرا بغير عهد ولا عقد وهي كلها صلح

وكان من دون الإسكندرية منَ الروم والقبط قَدْ تجمعوا له، وقالوا: نغزوه بالفسطاط قبل أن يبلغنا ويروم الإسكندرية فلقيهم بالكريون فهزمهم وقتل منهم مقتلة عظيمة، وكان فيهم من أهل سخا وبلهبت والخيس وسلطيس وغيرهم قوم رفدوهم وأعانوهم، ثُمَّ سار عَمْرو حَتَّى انتهى إِلَى الإسكندرية فوجد أهلها معدين لقتاله فقاتلهم المسلمون قتالا شديدا وحصروهم ثلاثة أشهر و ضربوا المدينة بالمنجنيق، ثم أن عمرا فتحها بالسيف وغنم ما فيها واستبقى أهلها ولم يقتل ولم يسب

جبى عَمْرو خراج مصر وجزيتها ألفي ألف. وجباها عَبْد اللَّهِ بْن سَعْد بْن أَبِي سرح أربعة آلاف ألف، فقال عُثْمَان بن عفان لعمرو (بعدما عزله عن ولاية مصر): إن اللقاح بمصر بعدك قَدْ درث ألبانها، قَالَ: ذاك لأنكم أعجفتم أولادها

وكتب عُمَر بْن الخطاب في سنة إحدى وعشرين إلى عمرو بن العاصي يعلمه ما فيه أهل المدينة منَ الجهد ويأمره أن يحمل ما يقبض منَ الطعام و الخراج إِلَى المدينة في البحر فكان ذلك يحمل ويحمل معه الزيت فإذا ورد الجار تولى قبضه سَعْد الجار، ثُمَّ جعل في دار بالمدينة وقسم بَيْنَ الناس بمكيال فانقطع ذلك في الفتنة الأولى، ثُمَّ حمل في أيام معاوية ويزيد ثُمَّ انقطع إِلَى زمن عَبْد الملك بْن مروان ثُمَّ لم يزل يحمل إِلَى خلافة أَبِي جَعْفَر وقبيلها

ثم أن أهل الجزية بمصر صولحوا في خلافة عُمَر بعد الصلح الأول مكان الحنطة والزيت والعسل والخل عَلَى دينارين دينارين، فألزم كل رجل أربعة دنانير فرضوا بذلك وأحبوه.

قال عمرو بن العاص عَلَى المنبر: لقد قعدت مقعدي هَذَا وما لأحد من قبط مصر علي عهد ولا عقد إن شئت قتلت وإن شئت خمست وإن شئت بعت

كتب معاوية إلى وردان مولى عمرو أن زد عَلَى كل امرئ منَ القبط قيراطا، فكتب إليه كيف أزيد عليهم وفي عهدهم أن لا يزاد عليهم.

كان عُمَر بْن الخطاب يكتب أموال عماله إذا ولاهم ثُمَّ يقاسمهم ما زاد عَلَى ذلك وربما أخذه منهم، فكتب إلى عمرو بن العاص أنه قَدْ فشت لك فاشية من متاع ورقيق وآنية وحيوان لم يكن حين وليت مصر، فكتب إليه عَمْرو: أن أرضنا أرض مزدرع ومتجر فنحن نصيب فضلا عما نحتاج إليه، فكتب إليه: إني قَدْ خبرت من عمال السوء ما كفى وكتابك إِلَى كتاب من قَدْ أقلقه الأخذ بالحق وقد سؤت بك ظنا وقد وجهت إليك مُحَمَّد بْن مسلمة ليقاسمك مَالِك فأطلعه طلعة وأخرج إليه ما يطالبك بها واعفه منَ الغلظة عليك فإنه برح الخفاء، فقاسمه ماله

افتتح عمرو بن العاص الإسكندرية فسكنها المسلمون في رباطهم ثُمَّ قفلوا ثُمَّ غزوا وابتدروا إِلَى المنازل فكان الرجل يأتي المنزل الَّذِي كان ينزله فيجد صاحبه قَدْ نزله وبدر إليه، فقال عَمْرو: إني أخاف أن تخرب المنازل إذا كنتم تتعاودونها

فلما غزا فصاروا عند الكريون (أحد المدن) قَالَ لهم سيروا عَلَى بركة اللَّه فمن ركز منكم رمحا في دار فهي له ولبني أبيه، فكان الرجل يدخل الدار فيركز رمحه في بعض بيوتها ويأتي الآخر فيركز رمحه كذلك أيضا فكانت الدار بَيْنَ النفسين والثلاثة فكانوا يسكنونها فإذا قفلوا سكنها الروم، فكان يزيد بْن أَبِي حبيب يقول: لا يحل لأحد شيء من كرائها ولا تباع ولا تورث إنما كانت لهم سكنى أيام رباطهم

زرقاء اليمامة

أضف تعليق